يطلق على الانتفاضة الشعبية التي أدت يوم الثلاثاء الماضي إلى استقالة الرئيس الجورجي (إدوارد شيفرنادزة) اسم (الثورة المخملية) أو (ثورة الورود)· بيد أننا عندما نلقي بنظرة أكثر تمعنا على القوى التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس فإننا سنلمح ربما صفة أكثر قدرة على البقاء وهي أن تلك الانتفاضة كانت تمثل (أول ثورة ضد الفساد في دولة كانت تابعة للاتحاد السوفييتي السابق)·
فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، تفشت الجريمة والفساد في جميع أرجاء الدول التي كان يتشكل منها. وبلغ هذا الأمر حدا هائلا في جورجيا التي جاء تصنيفها في المركز المئة وأربعة وعشرين من بين مئة وثلاثين دولة في العالم فيما يتعلق بمؤشرات الفساد حسبما جاء في تقرير منظمة (الشفافية الدولية) لعام 2003·وهذا المؤشر تم تحديده بناء على مسوح متعددة تم إجراؤها، تبين منها أن أعضاء عائلة (شيفرنادزة)، ودائرته الداخلية الضيقة قد أثروا من خلال صفقات الخصخصة المزورة والتلاعب في المخصصات المالية، وتقاضي الرشاوى مقابل التعيين في الوظائف المهمة كالجمارك مثلا. وقد أدى هذا الفساد في القمة إلى استشراء فساد مماثل في كافة مظاهر الحياة اليومية. لقد تمكنا نحن من أن نرى مباشرة المشكلات العديدة التي كان المواطن الجورجي يعانيها جراء الفساد وذلك من خلال مركز الفساد والجريمة الانتقالية التابع للجامعة الأميركية، والمدعوم من قبل وزارة العدل الأميركية. فمن خلال هذا المركز، عملنا خلال الخمسة عشر شهرا الماضية مع نشطاء مقاومة الفساد الجورجيين، لتأسيس أول مركز بحثي في البلاد لتقديم الدراسات المتخصصة عن الفساد ، وغسيل الأموال، والجريمة المنظمة.
ويذكر أن عمل مركزنا قد لقي تجاوبا منقطع النظير وذلك كما تبين من الاجتماعات التي عقدناها والتي ضمت العديد من أساتذة الجامعات ومن ممثلي الجهات المنوط بها فرض النظام والقانون، ومن المنظمات الحكومية وغير الحكومية في البلاد، إضافة إلى عدد من المسؤولين الحاليين والسابقين في الدولة.
تبين لنا خلال المسوح التي أجريناها أنه بعد 11 عاما تحت حكم (شيفرنادزة) تحولت جورجيا التي كانت واحدة من أغنى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق إلى واحدة من أفقر الدول في المنطقة، مما ترتب عليه هجرة ما يقارب عشرين في المئة من السكان إلى بلدان أخرى.
وعلى رغم أنه كانت هناك أسباب أخرى لتدهور الاقتصاد والمجتمع في جورجيا، مثل الصراعات الأهلية، وعملية التحول من الاقتصاد السوفييتي المخطط إلى اقتصاد السوق الحر، فإن الفساد تحديدا جاء كي يزيد الطين بلة. وفي النهاية جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير منذ أربعة أسابيع، وذلك عندما حاول المسؤولون التلاعب في الانتخابات البرلمانية، مما جعل الشعب الجورجي الذي عانى طويلا من المهانة، والذي أرهقه الفقر والفاقة تحت حكم (شيفرنادزة)ينتفض على حكمه ويطيح به.
ومما لا شك فيه أن الأحداث التي جرت في جورجيا ستكون لها تداعيات وأصداء في جميع أرجاء المنطقة. ولقد تبدت بدايات ذلك فيما قام به قادة المعارضة في (مولدوفا) الذين قاموا -متشجعين في ذلك بما قام به نظراؤهم في جورجيا - بتعطيل وإلغاء الزيارة التي كان (بوتين) سيقوم بها إلى بلدهم. علاوة على ذلك فإنه مما لا شك فيه أن نشطاء المعارضة في (أوكرانيا)، التي تضمنت الانتخابات الماضية التي جرت فيها تجاوزات خطيرة، سيضعون ما حدث في جورجيا في حسبانهم عند قيامهم بالاستعداد لخوض غمار الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في خريف عام 2004· وفي أذربيجان حيث تولى (إلهام علييف) نجل رئيس البلاد السابق السلطة حديثا في البلاد من خلال انتخابات اعتبرها الكثير من المراقبين مشوبة بالأخطاء والعيوب، فإن المراقبين يعتقدون أن (علييف) سينتابه القلق بلا شك من احتمال أن تمثل التجربة الجورجية مصدر إلهام للمنشقين عليه.
والآن بعد أن ذهب (شيفرنادزة) فإن هناك تحديات هائلة تنتظر خلفاءه في حكم البلاد. من تلك التحديات أن بنية الفساد التي قامت حول إدارة (شيفرنادزة)، والتي ساهمت في ترسيخ، وانتفعت من جو الفساد المخيم على البلاد، لازالت موجودة حتى الآن . بالإضافة إلى هذه التحديات، سيجد قادة البلاد الجدد أنفسهم أمام مهمة رهيبة وهي تلك الخاصة باستئصال جذور الفساد التي ضربت عميقا في تربة البيروقراطية الجورجية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. وسيتعين عليهم أيضا إقصاء مراكز القوة والنفوذ في الأقاليم، والإطاحة برجال الدائرة الضيقة الفاسدة التي أحاطت بالرئيس السابق، والتي زرعت خلايا لها في كل مكان داخل المنظومة السياسية والاقتصادية للدولة.
وإذا ما قمنا بالمقارنة بين التجربة الجورجية وبين التجربة الصربية ، فإننا سندرك أن القيادة الجورجية الجديدة مطالبة بمواجهة تلك التحديات بسرعة، كما أنها مطالبة بأن تدرك تماما أن تلك التجربة يكتنفها الكثير من المخاطر. وبقيامهم بذلك فإن زعماء جورجيا الجدد ، يستطيعون تلافي النهاية الدامية التي انتهى عليها (زوران دينديتش) رئيس الوزراء الصربي ا